النبي
صلى الله عليه وسلم يصلح بين الناس:للشيخ محمد المنجد
وفي
سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية محاولاتٌ وعملٌ دائبٌ منه صلى الله عليه
وسلم في الإصلاح بين الناس، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه : (أن أهل
قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك،
فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم) أمر أصحابه أن يذهبوا للإصلاح بينهم، وعنون عليه
البخاري رحمه الله: باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح. بل إن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يذهب في الإصلاح ولو بعدت المسافة وفاته شيءٌ من الجماعة لأجل
الإصلاح بين الناس، كما روى البخاري رحمه الله: أن بني عمرو بن عوف بـقباء كان
بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم صلى الله عليه وسلم في أناسٍ من أصحابه، فحبس رسول
الله صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال:
يا أبا بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس وقد حانت الصلاة، فهل لك أن
تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر رضي الله عنه، فكبر
بالناس، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقاً حتى قام في الصف
فأخذ الناس في التصفيح....الحديث. تأخر عليه الصلاة والسلام عن صلاة الجماعة وذهب
إلى قباء للإصلاح بينهم، كان ممشى خير وأجراً عظيماً، وندب إلى ذلك أصحابه، وكان
عليه الصلاة والسلام يشير على المتخاصمين بالصلح. فعن عائشة رضي الله عنها قالت:
(سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصومٍ بالباب عالية أصواتهم، وإذا أحدهم
يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء -يقول: دع لي من أصل المال- والآخر يقول: والله لا
أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أين المتألي على الله لا
يفعل المعروف؟ فقال: أنا يا رسول الله! فله أي ذلك أحب) وعظه عليه الصلاة والسلام
فقال: أين الذي يحلف بالله ألا يفعل الخير؟ فاستحيا الرجل وقال: أنا يا رسول الله،
فله أي ذلك أحب، أي: فما أراده من عفو عن بعض المال فأنا راضٍ به، فكان عليه
الصلاة والسلام يعظ في أمر الصلح ويرغب فيه، ويعط من رفض الصلح، كما وعظ الذي الذي
حلف بالله ألا يقبل بعرض خصمه عليه. وكذلك جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى:
(أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو في بيته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى
كعب بن مالك ، فقال: يا كعب ، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر
-أي: تنازل له عن النصف- فقال كعب : قد فعلتُ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم للخصم الآخر: قم فاقضه). فكان عليه الصلاة والسلام يشير بالصلح،
وقد رأى هذا لا يستطيع الوفاء، والآخر يلح في الطلب، فطلب من أحدهما أن يتنازل عن
شيء، وطلب من الآخر أن يقضيه الباقي، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذه
سياسته في أصحابه.
الصلح
بين المسلمين المتقاتلين من أعظم الصلح:
ومن
أعظم الصلح الصلح بين المسلمين المتقاتلين، لأن إراقة الدماء بين المسلمين من أعظم
الكبائر ومما يفرق الصفوف أشد تفريق، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
[الحجرات:9] فهذا أمرٌ بالصلح. وكذلك فإن الإصلاح بين طالبي الدية في
الجراحات مما جاء في السنة، فإن أنساً رضي الله عنه حدث أن الربيِّع بنت النضر
كسرت ثنية جارية، اعتدت عليها فكسرت ثنيتها، فطلبوا القصاص فقال أهل الربيِّع :
نعطيكم مالاً بدلاً مما فعلته الربيِّع ، أو اعفوا عنها وتنازلوا عن طلب القصاص،
فأبوا إلا القصاص، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالقصاص لأنه كتاب
الله، فقال أنس بن النضر : أتكسر ثنية الربيِّع يا رسول الله؟! -وكان رجلاً صالحاً
من أولياء الله تعالى- لا والذي بعثك بالحق لاتكسر ثنيتها، فقال: يا أنس كتاب الله
القصاص، فرضي القوم وعفوا، وفجأة تغير الموقف، فرضي القوم فعفوا، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
شرف الحسن بن علي بإصلاحه بين أهل العراق والشام:
وكان
من أعظم البركة والخير على المسلمين الحسن بن علي رضي الله عنه، فإن الله أصلح به
بين فئتين عظيمتين من المسلمين، كما جاء في الصحيح أنه لما تواجه معاوية والحسن
رضي الله تعالى عنهما، فقال عمرو : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال
له معاوية -وكان والله خير الرجلين- أي عمرو ! إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء،
فمن لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إلى رجلين من قريش، فقال:
اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له، واطلبا إليه، فأتياه، فقبل رضي الله
عنه الصلح، ورجع عن القتال، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فإنه التفت
إلى الحسن مرةً وإلى الناس، فقال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين
فئتين عظيمتين من المسلمين).
ثمرات
الصلح بين المسلمين:
أيها
المسلمون: إن فوائد الصلح كثيرة، فإنه يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة، واستئصال
داء النزاع قبل أن يستفحل، وحقن الدماء التي تراق، وتوفير الأموال التي تنفق
للمحامين بالحق وبالباطل، والحماية من شهادة الزور، وتجنب المشاجرات والاعتداءات
على الحقوق والنفوس، بل إن الشريعة جعلت للمصلح حقاً من الزكاة أو من بيت المال،
لأداء ما تحمله من الديون بسبب الإصلاح، وإن كان قادراً على أدائها من ماله، فقال
الله تعالى: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60] وهم من تحملوا الديات لأجل الإصلاح
بين الناس، وكف بعضهم عن قتل بعض. نسأل الله عز وجل أن يصلح ذات بيننا، وأن يهدينا
سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور. اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين
آمنوا، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم،
فاستغفروه إنه رءوفٌ رحيم.
الصلح
بين الزوجين من أعظم أنواع الصلح:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين
والآخرين، الحمد لله خالق السماوات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم،
وحده لا شريك له، هو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً
رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ
إلى يوم الدين. أيها المسلمون: يا عباد الله! ومن أعظم أنواع الصلح الصلح بين
الزوجين المتخاصمين، فإن الأسر تقوم على المحبة والألفة وتدوم بدوامها، فإذا انتهت
المحبة والألفة وحل الشقاق، صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيام بواجبهم تجاه
الأسر المتفككة والسعي في الإصلاح بين الأزواج، وقد قال الله عز وجل عند حصول
الشقاق: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ
بَيْنَهُمَا [النساء:35]. إذا كانت النية
طيبة جاءت النتيجة طيبة: إِنْ يُرِيدَا
إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا
[النساء:35]. وندب الله تعالى إلى المصالحة بين المرأة وزوجها، وقال الله
عز وجل: فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا
بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
[النساء:128]. الصلح خيرٌ من الشقاق، الصلح خيرٌ من الفراق، الصلح خيرٌ من
البغضاء التي تقوم في النفوس. قالت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما في قوله
تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ
بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً
[النساء: 128] قالت: ]هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه -كبراً أو غيره-
فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت، قالت: ولا بأس إذا تراضيا]. فإذا
أراد أن يطلقها إيثاراً لزوجته الأخرى مثلاً، فقالت الأولى: أمسكني عند أولادي،
وأبيحك من ليلتي، فهذا جائز، وقد جعلت ذلك سودة رضي الله عنها، أو تصطلح معه على
أن تضع عنه شيئاً من النفقة، وتتنازل له عن شيءٍ منها من أجل أن تدوم الحياة
الزوجية لقوله تعالى: فَلا جُنَاحَ
عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128].
التحكيم بين الزوجين من أجل الإصلاح:
وقال
تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ
بَيْنَهُمَا [النساء:35] فماذا يفعل
الحكمان؟ يقوم كل واحدٍ منهما بالالتقاء بوكيله أو مندوبه الذي انتدبه، أو طرفه
الذي ينوب عنه -وإذا قلنا: إنه حاكم، فإن كلام الحكمين معتمد- ويسمع منه سبب
الشقاق والخلاف، ثم يجتمع الحكمان فيعتمدان أموراً، ويتوصلان إلى صاحب الخطأ، من
هو الطرف المخطئ لأجل وعظه ونصحه، أو وعظ الطرفين إذا كان كلاهما مخطئ، والسعي في
تقريب وجهات النظر، ولذلك فإن من الحكمة أن يذكر الحكمان الزوج بوصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالنساء، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الوصية بالزوجة: (خيركم
خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) ويقولان له: إن منك يا أيها الزوج أن تعامل زوجتك
بالفضل لا بالعدل؛ الواحدة بواحدة، وإذا فعلت ترد عليها، وإنما تتعامل معها بالفضل
وبالمسامحة وبالزيادة منك والتغاضي، لأن أهلها استودعوها عندك، وائتمنوك عليها،
ووثقوا أنك لن تسبب لهم المتاعب بسببها، وأنها أم أولادك، أو أنها ستكون كذلك
مستقبلاً، والولد الصالح مما ينتفع به أبوه في الحياة وبالدعاء له بعد الممات، وأن
الزوجة كالأسيرة بيد زوجها، وليس من الإسلام ولا من المروءة ولا من الشجاعة التي
جاء بها الإسلام أن يسيء المسلم إلى أسيرته، أو أسيره، فكيف إذا كانت الأسيرة
الزوجة؟ وأن الزوج الكريم هو الذي لا يستغل قوته وبطشه ولا يتعسف باستعمال سلطته
على زوجته على نحوٍ يلحق بها الضرر، فهذه المعاني إذا قدمها الحكمان إلى الزوج
بأسلوبٍ لطيف وقولٍ لين، فالغالب أنها ستؤثر في نفس الزوج، وسيقلع عما أدى إلى
الشقاق. وكذلك ينبغي للحكم من أهل الزوجة أن يكلم الزوجة بمعاني الإسلام، ويذكرها
بأحكامه المتعلقة بالزوجة في علاقتها بزوجها، وأن يذكرها بعظيم حق الزوج عليها،
وأن من حسن معاشرتها له بالمعروف أن تسمعه الكلمة الطيبة اللينة، وأن تسارع إلى
طاعته فيما أوجبه الشرع عليها من طاعته، وفيما يأمرها به زوجها من المباحات، وألا
تثقل عليه بطلباتها الكثيرة، وأن تتحمل عبوسه وصدوده وإساءته وأن تقابل ذلك
بابتسامتها وإحسانها وخدمتها، فإن الزوج إذا رأى ذلك منها، فسرعان ما يزول عنه
العبوس والصدود ويكف عن الإساءة، وعليها ألا تستقصي في طلب الحقوق، وإذا أحست
بكراهتها له، فلتطرد هذا الإحساس، ولتذكر نفسها بأنه قد يجعل الله لها فيما تكرهه
الخير الكثير، فيرزقها الله منه ولداً تقر به عينها، ويزول عن قلبها ما تحسه من
كراهة لزوجها. فتذكير الطرفين بحق كل واحدٍ منهما على الآخر وبالمعاشرة بالمعروف
التي أمر الله بها، مما يجعل أمرهما ليناً سهلاً، والصلح بينهما وشيكاً.
المصلح
بين الناس .. وآدابه:
إذا كان المتدخل في الخصومة غير عاقل لا يحسن
التصرف، فإن إفساده أكثر من إصلاحه، وهذا أمرٌ مشاهد، فإن عدداً من الناس يتدخل في
القضية لأجل الإصلاح بزعمه، فإذا به يبعد النجعة، ويباعد الشقة، ويتسبب في مزيدٍ
من الفرقة، ويحصل الكثير من الخلاف بعد أن كان شيئاً محدوداً، فإذا به يستشري
وينتشر. فنذكر المصلحين الذين يريدون التدخل للإصلاح: أولاً: أن يبتغوا وجه الله
تعالى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً [النساء:35] أي: إذا كانت النية صافية
ومُخْلَصَةً لله كانت النتيجة طيبة
يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا
[النساء:35]. ثانياً: الحكمة في التعامل في الأمور، فإن في كثيرٍ من
الأشياء بين المتخاصمين حساسيات. ثالثاً: التكتم: (واستعينوا على إنجاح الحوائج
بالكتمان) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلكي تنجح القضية، لابد من التكتم
وعدم نشر التفاصيل بين الناس. رابعاً: أن يذكر كل واحد من المتخاصمين بالله عز
وجل، وبحق الآخر عليه، إن كان أخاً في الله يذكر بحقوق الأخوة، وإن كان زوجاً يذكر
بحقوق الزوجة، وإن كانت زوجة تذكر بحقوق الزوج. وكذلك فإنه لا بأس أن تنقل إليه
كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، وتكتم عنه أموراً من الشر جاءت على لسان
الطرف الآخر، هذا من الحكمة والسياسة في الإصلاح بين المتخاصمين. أيها المسلمون:
إن إصلاح ذات البين والإصلاح بين المتخاصمين عبادة عظيمة جداً فرط فيها الكثير،
ولذلك عمت الفرقة والشتات في كثيرٍ من طبقات المجتمع ونواحيه، وتفككت كثيرٌ من
الأسر، لو أن المسلمين تدخلوا كما أمر الله:
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
[الأنفال:1] -وهو أمرٌ واجب- لتفادينا كثيراً من الشر، ولكنك ترى هذا يخالف
الشرع، وهذا يهمل ولا يهمه الأمر، ولذلك انتشرت الخلافات وعم الشقاق بين المسلمين،
فلنبادر إلى الإصلاح على جميع المستويات؛ الإصلاح بين الدعاة إلى الله أنفسهم،
والإصلاح بين كل متخاصمين من المسلمين. أيها المسلمون: هذه عبادة أوصى بها الله،
وأوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتدبوا أنفسكم للقيام بها، فإن في
القيام بها أجراً عظيماً لا يعلمه إلا الله عز وجل. اللهم إنا نسألك أن تجعل
قلوبنا عامرةً بذكرك، وأن تطهر قلوبنا من الشرك والنفاق، وأن تطهر ألسنتنا من
الكذب، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا إخوةً متحابين في سبيلك، قائمين بحقوقك، عاملين
بدينك، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع راية الدين، واقمع
أهل النفاق والشرك يا رب العالمين!